لم تكن حرب العاشر من رمضان هي النموذج الوحيد لانتصارات المسلمين الكبرى في رمضان؛ فهذءا الشهر الكريم هو شهر الانتصارات الكبرى.
إذ تحقق فيه أعظم الانتصارات للمسلمين؛ كغزوة بدر،ـ وفتح مكة، وعين جالوت؛ فلم يكن هذا الشهر عند المسلمين شهر قعود وكسل، بل جهاد ودعوة.
واليوم نتحدث عن انتصار من تلك الانتصارات العظيمة، وهو فتح الأندلس الذي بدأ في مثل هذه الأيام المباركات في العشر الأواخر من رمضان سنة 92هـ.
يُعَدُّ فتحُ الأندلس من الانتصارات الكبرى، ليس للمسلمين فقط، لكن للعالم بأسره؛ وهذا لأن طريق العالم كله اختلف بعد فتح الأندلس الذي يمثل أكثر الأماكن التي انتشرت فيها الحركة العلمية الإسلامية.
وظهر فيها علماء في كل مجالات الشريعة والحياة، مثل ابن خلدون، والزهراوي، وابن رشد.
وعلماء آخرون في الجغرافيا، والفلك، والهندسة. فكل هذه العلوم نمت في الأندلس بشكل بارز جدًّا، وانتقلت من الأندلس إلى أوروبا، وعلى أكتاف هذه العلوم قامت الحضارة الأوروبية الحديثة في القرنين: السادس والسابع عشر.
يذكر المؤرخ الفرنسي رينو حال أوربا قبل الإسلام، فيقول: طفحت أوربا في ذلك الزمان بالعيوب والآثام، وهربت من النظافة والعناية بالإنسان والمكان، وزخرت بالجهل والفوضى والتأخر، وشيوع الظلم والاضطهاد، وفشت فيها الأمية.
ويصف البكري بعض أصناف الصقالبة سكان المناطق الشمالية في أوربا، فيقول: لهم أفعال مثل أفعال الهند، فيحرقون الميت عند موته.
وتأتي نساء الميت يقطعن أيديهن ووجوههن بالسكاكين، وبعض النساء المحبات لأزواجهن يشنقن أنفسهن على الملأ، ثم تُحرق الجثة بعد الموت، وتوضع مع الميت.
كان فتح الأندلس ودخول الإسلام خيرًا كثيرًا للعالم؛ لأنه أحدث تغيرًا كبيرًا في مسيرة العالم كله نحو العلوم ونحو الأخلاق والسلوك العام
قصر الحمراء
قصر الحمراء
في التعامل؛ فقد علَّم المسلمون في الأندلس الأوربيين مبادئ السلوك الراقي، ويكفي أن أضرب مثلًا بأن الأوروبيين الموجودين في شمال إسبانيا قبل دخول الإسلام كانوا لا يغتسلون.
إلا مرة أو اثنتين في السنة لا يغتسل ويعتبر ذلك من البركة! إلى أن وجد المسلم يتوضأ خمس مرات في اليوم ويغتسل في مناسبات عديدة تبلغ أكثر من 18 غُسلًا.
انتقلت هذه النظافة إلى أوروبا وغيرت سلوكيات الأوروبيين، كما انتقل التعامل بالرحمة بين أفراد الأسرة إلى أوروبا.
وبدأت الأسرة الأوروبية تتأثر بالجو الإسلامي، وحتى النظام والإضاءة في الشوارع ونظام الري والصرف في الزراعة. انتقلت الحياة اليومية للمسلمين إلى أوروبا بعد دخول الإسلام لأرض الأندلس.
إسبانيا تحتفل بعبد الرحمن الناصر
تغيرت قصة الأندلس بعد دخول الإسلام، فأصبح الأندلس بلدًا راقيًا متحضِّرًا، وبعد حوالي مائتي سنة أصبح الأندلس الدولة الأولى في العالم في عهد عبد الرحمن الناصر رحمه الله والذي أعلن الخلافة الأموية في الأندلس.
وأصبح أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى بلا منازع لدرجة أن الأسبان سنة 1961م احتفلوا بمرور ألف سنة على وفاته اعترافًا بفضله على الحضارة الإسبانية والأوربية.
رواق باحة الأسود بقصر الحمراء
رواق باحة الأسود بقصر الحمراء
ومع هذا الخلق كان هناك نشر للعلم الحياتي من طب وفلك وجغرافيا وكيمياء. لقد تغيرت الدنيا كثيرًا بعد رمضان سنة 92هـ.
ومن أهم الأشياء التي يذكرها التاريخ مكتبة قرطبة ثم بعد ذلك المكتبة الأموية. وقد كانت مكتبة قرطبة المكتبة الثالثة على مستوى العالم تضم نصف مليون كتاب في وقت لم تكن فيه طباعة.
وبهذا فالرقم مذهل، ولو بحثنا عن المكتبة الأولى والثانية في العالم لوجدنا أن الأولى كانت مكتبة بغداد التي أغرقها التتار في نهر دجلة.
والثانية مكتبة دار الحكمة في القاهرة، والثالثة مكتبة قرطبة التي اختفى ذكرها في التاريخ؛ لأنه عندما أُسقِطت قرطبة بواسطة الصليبيين سنة 636 من الهجرة قبل سقوط بغداد بعشرين سنة فقط أحرق الصليبيون كل الكتب الموجودة في مكتبة قرطبة لدرجة أن كمبيس- وهو أحد القساوسة في الجيش الصليبي- أحرق في يوم واحد ثمانين ألف كتابٍ في أحد ميادين قرطبة.
وعندما أسقطوا أشبيلية سنة 646 هـ بعد قرطبة بعشر سنوات أحرقوا كل الكتب في أشبيلية، لاعتقادهم الجازم أن نشأة هذه الأمة وصدارتها وقوتها تكمن في علومها سواء كانت علوم الشرع أو علوم الحياة.
ومادام الاثنان موجودين فستظل هذه الأمة قوية وعندما أحرق الصليبيون هذه الكتب وأغرقوها أرادوا قطع تلك الأمة عن جذورها، ولكنهم جهلوا أن تلك الأمة لا يمكن أن تموت.
لقد كان فتح الأندلس هو بداية عهد النهضة والعلم والمعرفة والحضارة الغربية، ولو لم يتم لكانت أوربا ما تزال تعيش في دركات الجهل والتخلُّف؛ لذا لابد أن يعرف المسلمون قيمة ما قدَّموه للدنيا.
وأهمية أن يعودوا للعب دورهم الحضاري. أسأل الله عز وجل أن يعيد للأمة عزتها ونهضتها.
الكاتب: د. راغب السرجاني
المصدر: موقع قصة الإسلام